Search This Blog

15/04/2011

Ebn Kalton and teaching the Arabic language

بسم الله الرحمن الرحيم

جامعة الملك سعود

كلية الآداب
قسم اللغة العربية


 


 


 


 


 

الفكر اللساني التربوي عند ابن خلدون


 


 

إعداد الطالبة :
أسماء بنت إبراهيم الجوير
ماجستير

المستوى الأول عام 1429_1430هـ


إشراف :

د. محمد صاري

أستاذ مقرر علم اللغة


 


 


 

المقـــــدمــــة


 

بسم الله الرحمن الرحيم


 

الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين ،نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد ، فإنًّ اللغة هي جسر التواصل بين أفراد المجتمع ،ولولاها لعاش كل فرد وكأنه في جزيرة منعزلة ، إنها الوظيفة الاجتماعية للغة ، والتي تحدث عنها غير واحد من العلماء الأقدمين كابن جني وغيره ، بينما هناك من العلماء من نبش الجوانب الأخرى للغة واللسان ، فتحدث عن علاقة هذه اللغة بالفطرة والتكوين النفسي ، وتحدث عن أوجه تشكل اللغة ومعالم هذا التشكل لدى الإنسان .

لقد برزت في الحقل اللساني دراسات تربط الألسنية بعلوم أخرى لتحلل الظواهر اللسانية من جوانب تلك العلوم ، فظهرت اللسانيات التربوية والاجتماعية والنفسية والحيوية وغيرها . كما تعددت النظريات اللسانية ذاتها ، لتملأ الدراسات اللسانية ثراء ، وقد سار كل ذلك مساره المعروف في التنكر للقديم وتجاهل العصور الوسطى متضمناً هذا التجاهل جهود علماء اللغة العربية الأوائل في وصف علم اللسان وتقعيده ، ونتج عن ذلك تقدم الغربيين في علم الألسنية نتيجة اتكائهم على ربط اللسانيات بالعلوم الأخرى التي برعوا فيها كعلم النفس والاجتماع والفلسفة، وتركونا خلفهم كالسديم نتبع آثارهم . مع إنَّ الدرس اللغوي العربي القديم يزخر بالدراسات اللسانية التي تضع لنا قاعدة يمكننا الوقوف عليها في سبيل إنشاء صرح لساني عربي حديث يبدأ من حيث انتهى إليه الآخرون ، مستنداً على موروث تراثي مبدع سليم .

وفي بحثي هذا أتطلع لمناقشة فكر عالم قديم كانت له رؤى خلدها مؤلَّفه الزاخر، وأبحث في آرائه اللسانية التربوية ، ذاك هو العلامة ابن خلدون، من خلال مقدمته الشهيرة لكتابه (كتاب العبر ، وديوان المبتدأ والخبر ، في أيام العرب والعجم والبربر ، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر).

وتسير خطة البحث على النحو التالي :

مدخل :

إضاءة حول اللسانيات التربوية .


مباحث البحث : المبحث الأول:

الملكة اللسانية : أ_ تعريف الملكة اللسانية .

ب_ الملكة اللسانية غير صناعة العربية وغير قواعد اللغة.

ج _ أحوال الملكة اللسانية : فسادها ، امتزاجها بغيرها.

د_ الحدس اللغوي .


 

المبحث الثاني :

قضايا الاكتساب عند ابن خلدون : أ_ نظرية اكتساب اللغة .

ب_ اكتساب اللغة من خلال الترعرع في البيئة .

ج_ اكتسابها بواسطة الحفظ والمران .

د _ النفس لا تتسع لأكثر من ملكة لسانية تامة واحدة .

هـ_ الملكة اللسانية وتعليم القرآن .

و_ التدرج في التعليم .

ز_ التمرين اللغوي .

الخاتمة :

نتائج البحث مقارنة باللسانيات الحديثة ، وخلاصة البحث .

المراجع .

أسماء بنت إبراهيم الجوير

مــدخـــل


 

إضاءة حول اللسانيات التربوية


 

تعليم اللغة عملية تحتاج إلى الإلمام بالقضايا اللغوية ، وأستاذ اللغة أيضاً لا بد أن يكون واعياً بالأصول التربوية لتعليم اللغة ، ومن هنا تظهر العلاقة المتبادلة والتلازم الشديد بين علم اللسانيات وعلم التربية والذي أنجب لنا اللسانيات التربوية بوصفها فرعاً من فروع اللسانيات التطبيقية .

وتتضح هذه العلاقة في معالجة المشكلات اللغوية التربوية الميدانية من نحو : ماذا يعلّم الأستاذ تلاميذه؟ ما حاجاته التعليمية؟ ما منهجيته في تعليم اللغة؟ كيف يختار مادته التعليمية؟ كيف يتدرج في تعليمه؟ وكيف يعرض مادته؟ كل هذه التساؤلات يعالجها علم اللسانيات التربوية.

نحن ندرك أنَّ النحو العربي وقواعد اللغة قد أضحت تمثال إنجازٍ ماثلٍ بين يدينا يشهد على حسن تجويد صناعه وناحتيه ، فقد بذل علماء اللغة العربية الأوائل في جمع اللغة ووصفها وتقعيدها ما لم يسجله التاريخ للغة أخرى غيرها ، واللغة والنحو من أهم القضايا التي تعنى بها اللسانيات التربوية ، ومن أعسر الموضوعات على المتعلمين ، مما أوجد جفوة بين اللغة ومتعلميها ، ومرد ذلك كما يتداول الكثيرون ليس اللغة في ذاتها ، بل التعسف في مناقشة قضاياها بين علمائها الأوائل وسوء تداولها في العصر الحديث فوقعت اللغة بين سندان هؤلاء ومطرقة أولئك ،فاستصعبها الناشئة .

لقد نقد الكثير من العلماء الأوائل هذه القضية ، وشعروا بالثقل الذي أثقلت به العربية ،فمنهم من باح بشجوه وأورد رأيه في ثنايا مؤلفاته كالجاحظ وابن جني والجرجاني الذين نادوا بضرورة دراسة النحو دراسة ضمنية وظيفية تطبيقية لا نحواً صرفاً . ومنهم من ألَّف رداً على النحاة الأوائل من أمثال ابن مضاء القرطبي وذلك مع اعترافه بقيمة قاعداتهم والهدف من وضعها، يقول: "إني رأيت النحويين –رحمة الله عليهم– قد وضعوا صناعة النحو لحفظ كلام العرب من اللحن، وصيانته عن التغيير، فبلغوا من ذلك الغاية التي أمّوا، وانتهوا إلى المطلوب الذي اتبعوا، إلا أنهم التزموا ما لا يلزمهم، وتجاوزوا فيها القدر الكافي فيما أرادوا منها، فتوعرت مسالكها ووهنت مبانيها."

ومعنى هذا أن ابن مضاء يسلم منذ البداية بالهدف التعليمي وبالجانب المعياري، لكنه يرى أن النحاة بالغوا في ذلك، حيث أثقلوا النحو بأمثال العلل الثواني والثوالث .

وبعد فنحن لا نقف مع ابن مضاء في دعوته، ولا مع المحدثين الذين اتبعوه ، كما أننا لا نقف مع القائلين بأن النحاة قد أضاعوا حياتهم بين زيد وعمرو، ولكننا نريد نحواً يُقبل عليه الطلاب، خاصة في مراحلهم الأولى من التعلم، نريد أن يجتمع فكر التربويين مع النحويين ، ليخرجوا لنا علمهم وخلاصة جهدهم في تيسير تعليم العربية لأبنائها؛ حتى لا تلامسَ لغتــَـنا الحبيبةَ نارُ القطيعةِ من أبنائها.


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 

المبحث الأول


الملكة اللسانية عند ابن خلدون


 

يقول ابن خلدون : " اعلم أنَّ اللغات كلَّها ملكاتٌ شبيهةٌ بالصناعة ، إذ هي ملَكاتٌ في اللسان ، للعبارةِ عن المعاني وجودتها وقصورِها بحسبِ تمامِ الملكةِ أو نقصانِها . وليسَ ذلك بالنظرِ إلى المفردات ، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب . فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال ، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع ، وهذا هو معنى البلاغة . والملكات لا تحصلُ إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقعُ أولاً وتعودُ منه للذاتِ صفة ، ثم تتكرر فتكونُ حالاً .ومعنى الحال أنها صفةٌ غير راسخة ، ثم يزيدُ التكرارُ فتكونُ ملكةً أي صفةً راسخة " .


 

أ_ تعريف الملكة اللسانية:

الملكة في نظر ابن خلدون صفة راسخة في النفس تمكّن الإنسانَ من القيام بالأعمال العائدة إليها ، فهي هنا في اللسان لتمكنه من أداء العمل العائد إليه وهو التعبير عن المعاني ، وينتج تفاوت في تمام هذه الملكة أو نقصانها يقاس بجودة التعبير عن المعنى أو قصوره ، أي بإتقان الفن اللساني ، ويلفت النظر إلى أنَّ تمام هذه الملكة اللسانية إنما هو بالنظر إلى التراكيب اللغوية لا المفردات ، إذ إن هذه التراكيب هي التي تؤدي المعنى المقصود من المتكلم.

إن تمكن هذه الملكة يحصل بقانون التكرار ، الذي يصور ارتقاء هذا التكرار من الصفة إلى الحال غير الراسخة في النفس ثم يستمر التكرار لتتكون لدى المتكلم ملكة أي صفة راسخة .

وحين نلقي النظر على علم اللغة الحديث نجد أنَّ الدراسة اللغوية تتدرج من علم الأصوات إلى الصرف إلى النحو، من الصوت إلى الكلمة إلى الجملة ، والجملة هي هدف المستويات التي تسبقها وهدف الدراسة اللغوية ذاتها ، وبها يتحقق الفهم والإفهام.

لقد قرر اللغويون المحدثون أنّ للغة ثلاثة مستويات : لغةٌ مفهِمة، ولغةٌ صحيحة ، ولغة بليغة ، فالمفهمة هي ما لا يتحرى فيها المتحدث عرف اللغة المستعملة من أنظمة ومقاييس ، بل يكون الإفهام فيها في أدنى درجاته ، وذلك كما يستعمل الأجانب عن اللغة العربية الآن هذه اللغة بقصد الإفهام المجرد دون مراعاة لأدنى مستويات الصحة .

أما اللغة الصحيحة فهي المتحرية لنظام الأصوات والبنية والإعراب ، وهي درجة أعلى من كونها للإفهام المجرد.

أما اللغة البليغة فهي التي تحقق مستوى الجمال والتأثير في التعبير ، وهي أعلى المستويات ، وهنا نشير إلى علم التداولية الذي يبحث في القوى المتضمنة في القول _ أي التأثير الذي ينتج من الكلام ، أو ما يسمى بـ (علم الاستعمال اللغوي) .

وابن خلدون في حديثه عن هذه الملكة وبيان أوجه تشكلها لا يخص ملكة اللسان العربي ، بل هي فكرة عامة تنطبق عنده على كل اللغات ، لأن اللغات إحدى مظاهر المجتمع الإنساني الهامة جداً ، وابن خلدون علامة العمران البشري قد استنفد مقدمته في مناقشة مظاهر هذا العمران وقوانينه وتطوره ، وبذا تكون اللغات ونظريته في الملكة اللسانية جزءاً من هذا العمران .


 


 

ب_ الملكة اللسانية غير صناعة العربية وغير قواعد اللغة :

يقول ابن خلدون : "فمن هنا يُعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية ومستغنية عنها بالجملة" .

ابن خلدون الآن يفرق بين الملكة وقوانين هذه الملكة ، بين العلم النظري والخبرة العملية بالتجربة ، فصناعة العربية ليست شرطاً لتوفر الملكة اللسانية ، ومع ذلك يربط ابن خلدون بينها وبين صناعة العربية فيقول : " والسبب في ذلك أنَّ صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة ، فهو علم بكيفية ، لا نفس كيفية، فليست نفس الملكة، وإنما هي بمثابة من يعرفُ صناعةً من الصنائعِ علماً ولا يحكمها عملاً " . فصناعة العربية نتيجة للمعرفة بقوانين الملكة اللسانية ، ومتكلم اللغة ينتج جمله مستعيناً بتلك القوانين ، فالملكة أساس والصناعة بناء قائم عليها وليست هي هي .

ويقول أيضاً : "وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها ،فإنَّ العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل" .

فالملكة اللسانية هي المعرفة بقوانين الإعراب وليست هي قوانين الإعراب ذاتها .

ثم يمثِّل ابن خلدون لهذا الخلط بواقع كثير ممن درس النحو في عصره وأفنى عمره في دراسة مسائله ، لكنهم مع ذلك يعجزون عن التعبير السليم من الأخطاء ، ومن جهةٍ أخرى ثمة كثير من الأدباء من ينطلق لسانه وقلمه بملكةٍ سليمة وإن لم يكدوا أذهانهم بمسائل النحو ودهاليزه . فهناك فرقٌ بين ما يتكلم به متحدث اللغة عفواً وبين ما يضعه علماء النحو من قواعد وقوانين عمداً وقصداً. لكنه أيضاً حين يفرق بين الملكة اللسانية وصناعة العربية لا يتنازل عن كون النحو هو حارس الملكة ، يرجع إليه لتصويبها ومراجعتها .

ولقد انتقد ابن خلدون كتب النحو حين وصفها بأنها كتب جافة ومجادلات عقيمة ، لا يستشعر علماؤها أمر هذه الملكة ، ويرحب إزاءَ ذلك بكتاب سيبويه لأنه لم يقتصر على القوانين فقط ،بل ضخَّ فيه دماءً من أمثالِ العرب وشواهِدِهم ، حيث يساعد على تكوين الملكة ، وهو بذلك يطلب أن تحذو كل كتب النحو حذوه بالأمثلة الراقية والنصوص المنتقاة والتمارين النافعة ، وهذا ما يدعمه أيضاً ابن مضاء في رده على النحاة إذ يسوق في مسألةٍ واحدة الكثير من التمارين غير العملية ثم يستنكر ذلك لقلة جدواه وعدم الحاجة إليه ،داعياً إلى إلغاء كل ما لا يفيد نطقاً ، إذ الناس عاجزون عن الحديث باللغة الفصيحة العملية فكيف بهذه المظنونات ؟ . وهذا ما ألح عليه عبد القاهر الجرجاني في أكثر من موضع في دلائل الإعجاز من أنَّ القاعدة النحوية ليست الهدف وإنما دلالتها على المعنى هي الهدف .

ويرى الدكتور عبد الله الخثران أن المراد هو " الابتعاد عن التركيز على القواعد مجردة من التطبيق ، لأن إخفاق الطلاب في النحو راجع إلى التجريد في تعاريفه ، وفصله عن حاجات المتعلم الماسة ، فلا بد من تجسيد تجريدها بأمثلة حية " .

وقد انقسم الباحثون تجاه قضية تطوير وتيسير النحو ثلاثة أقسام : القسم الأول يقول بإلغاء الإعراب وبحذف أبواب النحو التي لا حاجة إليها في نظرهم لكونها لا تستخدم ، والقسم الثاني يرى أن النحو مقدس ويرفض كل ما يتصل بالتطوير ، والقسم الثالث لا يرى بأساً في اتخاذ أسهل الطرق لتقريب المادة العلمية إلى عقول الطلاب ، ويرون ضرورة تحبيب اللغة إليهم .

إننا نرى تمييز ابن خلدون بين الملكة والصناعة بوضوح في النظرية التوليدية التي تحدد الكفاية اللغوية من حيث هي المعرفة الضمنية بقواعد اللغة ،ومن حيث هي قدرة المتكلم على أن يجمع بين الأصوات اللغوية وبين المعاني في تناسق مع قواعد لغته . ومما سبق نستطيع أن ننظر تربوياً إلى محتوى مقررات اللغة نظرة ناقدة لنتجه بألسن الناشئة نحو الملكة السليمة لا نحو الصناعة ، إذ إن كتب النحو ومقرراته أدت إلى ذود الناس عن الإقبال على تعلم اللغة نفسها ، بل والنفرة منها ، وهذا ما أدى إلى وصم اللغة ذاتها بالصعوبة والتعقيد ظناً من العوام أنَّ اللغة هي هذا النحو الممنطق ، وهذا ما حرره ابن خلدون .


 

ج _ أحوال الملكة اللسانية : فسادها ، امتزاجها بغيرها:

الملكة اللسانية صفة راسخة في النفس الإنسانية تطرأ عليها عوامل تؤثر فيها، وقد ناقش ابن خلدون هذه العوامل والأحوال بتفصيل ننثر شذراتٍ منه :

1_ فساد الملكة : قال رحمه الله : " ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم . وسبب فسادها أن الناشئ من الجيل ، صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب ، فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ، ويسمع كيفيات العرب أيضاً ، فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه ، فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى . وهذا معنى فساد اللسان العربي".

يعرِّف ابن خلدون فساد اللسان العربي بأنه تحول يصيب الملكة بسبب تعرض متكلميها إلى أساليب كلامية مغايرة ، فالملكة تفسد شيئاً فشيئاً بتعرض المتكلم بها للغات أخر ، جيلاً فجيلاً ، ومع توسع النطاق المكاني لمتكلميها ، ومحاولة غير المتحدثين بها اكتسابها ، وذلك عن طريق العامل الجوهري (السماع) حيث وصفه ابن خلدون بأنه " أبو الملكات اللسانية " .

2 _ امتزاج الملكات : إنَّ هذا التعرض للأساليب الكلامية المغايرة، أدى مع الوقت إلى البعد عن الملكة اللسانية الأساسية ، وأدى إلى امتزاج ملكتين أو أكثر مكونةً ملكة جديدة ، وبقدر مشابهة الملكة الجديدة للملكة الدخيلة يكون ابتعاد ملكة المتكلم عن ملكته الأم .

لقد فقد النشء الصراط القويم للملكة الصحيحة ، إذا تشابهت السبل واختلطت ، لذا نلحظ نشوء لغات شبابية متداولة أسموا بعضها بالـ(عربيزي)، تبدو كما يقول حافظ إبراهيم :

فجاءت كثوبٍ ضمَّ سبعين رقعةً مشـــكَّــــلةَ الألـــــوانِ مختلفاتِ

فتبرز حاجتنا والوضع كهذا إلى صياغة واقع اللغة من جديد ، وصياغة ارتباط النشء به بشكلٍ تخدمه تطلعاتهم وتقنيات فتنوا بها .


 

د_ الحدس اللغوي :

بعد أن ناقش العلامة نظريته في الملكة اللسانية وأحوالها ، انتقل إلى أن يبشر بنتيجة رسوخ هذه الملكة وهي تكوّن ما يمكن تسميته بـ(المصفاة اللغوية) التي يكون متكلم اللغة قادراً من خلالها على التمييز بين الكلام الصحيح الجاري على سنن كلام متحدثي اللغة وبين ما خالف الصواب ، وذلك نظراً لتمكنه من هذه اللغة حتى أصبح كأحد متحدثيها الأصليين إن لم يكن منهم فعلاً .

يقول ابن خلدون : " وإذا عرض عليه الكلام حائداً عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه . وعلم أنه ليس من كلام العرب الذي مارس كلامهم . وإنما يعجز عن الاحتجاج بذلك ، كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية ، فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء . وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب ، حتى يصير كواحد منهم " .

إنَّ هذه النتيجة التي يصل إليها صاحب الملكة اللسانية أسماها ابن خلدون (الذوق) ، فتذوق الطعام للمتمرس بالطهي يمكنه من التمييز بين الطعام المنزلي والطعام الجاهز بلا مقاييس قانونية وإن اشتبه على غيره ، فكأنَّ صاحب الملكة قد نشأت لديه حساسية نفسية أو حدس لغوي ناجم عن معرفته الضمنية بقوانين اللغة يمكنه من الحكم على جملة ما إن كانت من جمل لغته الصحيحة أم لا ، وهذه الملكة قد اكتسبها بصورة طبيعية تلقائية من بيئته التي ترعرع فيها ، بينما يمكن للنحاة الحكم على جملة ما بالصواب أو الخطأ بواسطة معرفتهم المباشرة بالقوانين التي استقرؤوها عبر دراستهم للغة .

" وإن سمع تركيباً غير جارٍ على ذلك المنحى مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر بل بغير فكر ، إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة " .

وإلى ذلك يعود استنكار كثير من البداة الأعراب في عصور الاحتجاج اللغوي لواقع اللسان العربي وفساده في الأمصار ، إذ يحكمون على لسان الحضر بالفساد اعتماداً على ملكتهم اللسانية ذات المعرفة الضمنية بالقواعد .

وموازاة لذلك ترفض النظرية الألسنية التوليدية والتحويلية اعتماد الاستقراء كمنهجية وحيدة في البحث الألسني ، كما يحصل في إطار المذاهب السلوكية ، كما ترفض أن تقتصر على السلوك الكلامي ، بل تعتمد منهجية استقرائية _ استنباطية تضع في ضوئها أنموذجاً متكاملاً لتنظيم القواعد الكامن ضمن الكفاية اللغوية .

وأرى أنَّ هذا الحدس اللغوي الذي يصل إليه المتكلم يفيد في بث الثقة في جدوى تعلم اللغة بأسلوب المحاكاة ، كما يفيد في صنع المقاييس والمسابقات اللغوية المنوعة، دون وجود حاجز العجز اللغوي المنطلق من الجهل بالقوانين النظرية .


 


 

المبحث الثاني


 

قضايا الاكتساب عند ابن خلدون


 


 

أ_ نظرية اكتساب اللغة :

من بين الظواهر التربوية العائدة إلى ما ألح عليه ابن خلدون من مفهوم الملكة اللسانية وأحوالها ، تبرز ظاهرة اكتساب اللغة ، أو تحصيل الملكة كما سماها ابن خلدون ، وبذلك يشرع لنا باباً آخر مهماً من أبواب الألسنية ، يندرج تحت ما يسمى بعلم النفس اللغوي أو السيكو _ ألسنية .

انطلق ابن خلدون في حديثه عن اكتساب اللغة حديثاً مدوياً ، من قاعدة تقول : " إلا أنَّ اللغات لما كانت ملكات كما مر ، كان تعلمها ممكناً شأن سائر الملكات " . فاللغة عبارة عن ميزة أو صفة إنسانية يكتسبها الإنسان بشكل متدرج غير مقصود، فتبدو هذه المقدرة وكأنها طبيعة وفطرة ، وهو بذلك يرفض ويعنِّف الآراء القائلة بأنَّ متحدثي اللغة ذوي اللغة السليمة الفصيحة إنما يتحدثون بها بالفطرة وحدها وأن لا جدوى من محاولة محاكاتهم، فيقول : " فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل . ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعراباً وبلاغة أمر طبيعي".

وابن خلدون بتأكيده على أن الملكة اللسانية مكتسبة يميز بين نوعين من عمليات الاكتساب اللغوي : الاكتساب من خلال الترعرع في البيئة وسماع لغتها ، والاكتساب أو التعلم بواسطة الحفظ والمران .


 

ب _ اكتساب اللغة من خلال الترعرع في البيئة :

ينشأ الطفل أو الأعجمي في بيئة فتتلقى أذنه التراكيب والصور اللغوية والكيفيات الكلامية فيقوم بالتعبير عن مقاصده بواسطة هذه الكيفيات ، ويستمع إليها أخرى فيحفظها ويعبر بها في مقامات يحتاجها ، يقول ابن خلدون : " فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم ، يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم ؛ كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها ؛ فيلقنها أولاً ، يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك . ثم لا يزال سماعهم يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم ، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم" .

إننا لا نستطيع اعتبار كلام البيئة بذلك مادة لغوية تعليمية ، جل ما في الأمر أن الأطفال والعجم يكتسبون المعرفة من خلال تعرض متواصل للكلام الذي يسمعونه من حولهم ، فيحاولون بقدراتهم الذاتية إتقانه إلى أن يصبح ملكة راسخة فيهم ، فالسمع أبو الملكات اللسانية كما يلح عليه ابن خلدون .

إن الطفل يملك قدرات فطرية تساعده على تقبل المعلومات اللغوية ومن ثم تكوين التراكيب اللغوية ، معنى ذلك أنه مهيأ لتكوين قواعد لغته الأم ضمنياً من خلال الكلام الذي يسمعه ، فيبني لغته بصورة إبداعية وبالتوافق مع قدراته الباطنية بقدر تقدمه في عملية الاكتساب، وهذا ما يسمى بالنظرية العقلانية التي يمثلها تشومسكي . بينما يرى علماء النفسِ السلوكيون أن اللغة شكل من أشكال السلوك، فالبيئة وحدها المسؤولة عن عملية الاكتساب ، وهو ما يسمى عندهم بالنظرية البيئية.


 

ج_ اكتسابها بواسطة الحفظ والمران :

ربط ابن خلدون بين اكتساب اللغة وتعلم اللغة ، وأوجد السبيل لذلك بإيجاد الأجواء المناسبة لعملية تعلم اللغة ، وذكر لنا أن أسلم طريقة تربوية هي إحاطة المتعلم بالنتاج العربي الفصيح ، والتعامل معه حفظاً وممارسة ، وإن فُـقد الجو الفطري المتحدث باللغة السليمة فثمة طريق آخر يقوم مقام السماع وهو حفظ النصوص الجيدة شعراً ونثراً وعلى رأسها القرآن الكريم ليكون المتعلم قادراً على محاكاة هذه النصوص . يقول ابن خلدون : "ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضاً في سائر فنونهم ؛ حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم ؛ ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره عل حسب عباراتهم ، وتأليف كلماتهم ، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم ؛ فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال ، ويزداد بكثرتهما رسوخاً وقوة" .

فلا بد إذن من وجود محيط لغوي مشابه لمحيط اللغة المراد تعلمها بحيث تنمو في ذهن المتعلم فيكتسب الملكة اللسانية الشبيهة ، وذلك عبر حفظه لكلام متحدثي اللغة ذوي الملكة الأصيلة وترديد كلامهم واستعماله إلى أن يجري على اللسان بصورة طبيعية ، وحتى ترسخ الملكة أكثر ويكون متعلم اللغة كأحد متحدثيها لا بد من كثرة الحفظ ومداومة الاستعمال،وهذه هي وسيلة التعلم لدى الأوائل ، فكان يعهد بالطفل إلى حلقات المسجد ليحفظ القرآن والحديث والشعر منذ الصغر فيكون متحدثاً فصيحاً . ولا بد أن ننتبه إلى ما ذكره ابن خلدون وناقشناه من قبل من أن الملكة اللسانية تعتمد على الجمل لا على المفردات من حيث تدرجها من الإفهام إلى الصحة إلى البلاغة .

لكن بعض الباحثين يرى أن لغة الطفل لا تعتبر نسخة مصغرة عن لغة مواطنيه من الكبار ، بل إنه يمتلك تنظيماً لغويا خاصاً به ، نراه بوضوح في تراكيبه اللغوية واستخداماته للغة ثم ينمو تدريجياً حتى يلتحق بلغة الكبار ، وهذا يثبت الإبداعية اللغوية لدى الطفل . كما إن الدكتور ميشال زكريا يرفض المفهوم البنياني (البنيوي) لعملية تعلم اللغة الثانية بل يعتبر تعلم اللغة عملية تستند على التفكير وليس على الحفظ الغيبي .

نشير هنا إلى أمور هامة :

1_ اكتساب اللغة يتم من خلال سماع كلام البيئة وحفظه ويتم أيضاً عبر المحاولات التي يقوم بها الطفل لاستعمال الكلام . فشائع تربوياً أن التعلم بالممارسة والمحاولة والخطأ عميق الفائدة في عملية اكتساب أي معرفة أو خبرة ومن ذلك اللغة ، ويتضح ذلك أيضاً عبر التمارين اللغوية التي تدور حولها بحوث الألسنيين والتربويين .

2_ الناحية الإبداعية في عملية الاكتساب وذلك بإشارته إلى أن سماع الطفل "يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم ، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم" ، ويناقش ذلك كثير من الألسنيين ، فالإنسان قادر على التعبير عن أفكاره المتجددة دائماً ، وعلى تفهم التعابير الفكرية بواسطة لغته، وقادر على التعبير عن أفكاره المتجددة دائماً .

3_ يركز ابن خلدون على الممارسة والتكرار حيث يقول : " وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرر لكلام العرب".

4_ تتكون مادة الطفل اللغوية من مجموع جمل المتكلمين في البيئة المحيطة به . لذا يتحتم على المجتمعات أن تأسس الطفل تربوياً على لغة مستقيمة لا ازدواجَ فيها من جهة ، ولا اعوجاجَ فيها أو قصوراً قاعدياً من جهة أخرى ، ويمكننا أن نلحظ الأثر السيء لمخالفة ذلك في الأطفال الذين يختلطون بالخادمات كثيراً ، حيث تنشأ لديهم لغة مكسرة مليئة بمفردات شرق آسيوية عرّبها الخدم ، وضمها الطفل لمعجمه اللغوي إذ هي مفردات تكوِّن جمل المتكلمين في البيئة المحيطة به، وإنا لنأسف كل الأسف لما يقرؤه الطفل من أخطاء نحوية ولغوية واضحة في اللوحات المعلقة في الشوارع والأسواق ، ومن أسماء دخيلة على لغتنا تزاحم جمال لغتنا فتكتب بخط عريض وشكل جميل ، ثم كيف يكوّن الطفل مادة لغوية وثقافية وأدبية راقية وهو يرى الاحتفاء بالآداب الشعبية والشعر العامي فترى وسائل الإعلام تتسابق لخدمة هذا النوع من الكلام ونشره والتشجيع عليه؟ ثم كيف ننتظر منه كتابة وظيفية أو أدبية راقية أو شعراً عربياً أصيلا؟

إن نظرية ابن خلدون تقف بين النظرية البيئية عند (سكينر)وبين النظرية العقلانية الفطرية لدى (تشومسكي) ،فابن خلدون يقارب النظرية البيئية حين يركز على الممارسة والتكرار ، ثم يتخطاها باتجاه أفكار (تشومسكي) حين يعتبر عملية الاكتساب عملية وجدانية تمر بحالات نفسية إلى أن تصبح ملكة لسانية . ثم يلتقي مع النظرية المعرفية البنائية لـ (بياجيه) في تركيزه على وقوع الفعل أولاً وفي تركيزه على النمو المتدرج .


 

د _ النفس لا تتسع لأكثر من ملكة لسانية تامة واحدة :

بعد أن عرفنا كيفية اكتساب اللغة ، سنعرف الآن أن الإنسان لا يمكنه اكتساب أكثر من ملكة لسانية واحدة بصورة كاملة،وبالتالي يكون العائق اللغوي من أهم العوائق في وجه الأعاجم الذين يريدون تعلم اللغة أو يريدون تعلم علوم أخرى تدرس بغير لغتهم ، حيث قرر في مقدمته قوله :"وإذا تبين لك ذلك ، علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله ، كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب ، فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة الذي مررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان ، وهي لغاتهم ، أن يعتنوا بما تداوله أهل المصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب". ويقول أيضاً : " في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي" .

بيّـن لنا ابن خلدون سبب عدم إتقان الأعاجم للغة الثانية إتقاناً تاماً ، وصور لنا أن ثمة مكاناً في النفس البشرية تحتله اللغة الأم ثم تأتي اللغة الثانية ولا تجد لها إلا أطراف المكان فتكون قاصرة في الإتقان عن اللغة الأم ، ووجه انتباهنا إلى أنّ قصور الأعجمي عن اكتساب اللغة الثانية ليس راجعاً إلى جنسه بل إلى انشغال مكان اللغة في نفسه بلغته الأم الأعجمية ، فالطفل الأعجمي حين يترعرع في بيئة فإنه يكتسب لغتها وتكون هي اللغة الأم بالنسبة له : " إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية ، كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم ، فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم ، ولا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية "، ويمثل لهؤلاء بعلماء اللغة المسلمين الذين كانوا أعاجم النسب لا اللغة ومنهم : سيبويه ،والكسائي،والفراء ، وغيرهم .

فبذلك نتذكر وصفه لهذه الملكة بأنها راسخة فلا يمكن نزعها واستبدالها بملكة أخرى مغايرة ، لكن متعلم اللغة الثانية يمكنه اكتساب اللغة ومن ثم تعلم علوم أخرى باللغة الثانية بيد أنها ستكون ناقصة عن لغته الأم في الإجادة ويصف ابن خلدون هذا الواقع بقوله: "إن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة". وهذا أمر طبيعي لأن الملكة لن تكون تامة إلا من خلال الترعرع بصورة طبيعية في بيئة اللغة لكي تتأصل في النفس ويؤثر هذا بالتالي على عملية تعلم أي لغة أخرى . ونجد أن هذه المسألة تعترف بها النظرية التوليدية والتحويلية، حيث إن من الأهداف التي تضعها النظرية الألسنية في مجال تعليم اللغة الثانية إيصال المتعلم إلى كفاية لغوية تقارب قدر الإمكان كفاية متكلم هذه اللغة كلغة أم .

إن التربويين يعانون أشد المعاناة من مشكلة التداخل بين اللغة الأم واللغة الثانية ، كما يعانون ويعاني المجتمع بأسره من وخاصة في الدول النامية والعربية من مشكلة اعتماد لغة تعليم مغايرة للغة المجتمع ،وهذا يثبت ما ذهب إليه ابن خلدون ، ولو عاش ابن خلدون _رحمه الله _ في هذا العصر لكان أول من نادى بتعريب العلوم وتعديل نظام التعليم بحيث يتوفر التعليم كلياً وللجميع باللغة الأم .


 


 

هـ_ الملكة اللسانية وتعليم القرآن :

من الشائع أن تعلم القرآن قراءة وحفظاً هو أساس الثروة اللغوية التي يحصلها دارس الفصحى ، ومن لم يعنَ بذلك فسيظل قاصراً عن إجادة اللغة العربية . لكن ابن خلدون يلفتنا إلى شيء جديد ، فيرى أن الاقتصار على تعلم القرآن ينشأ عنه قصور في الملكة اللسانية : " فأما أهل أفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة ، وذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله ، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها ".

وبهذا الصرف لا يتحقق للمشتغلين به وحده ملكة تماثله أو تشابهه، وهذا الانشغال به دون سواه يجعل صاحبه عاجزاً عن تحصيل ملكة لسانية في غيره ، والنتيجة التي توصل إليها هي أن المنشغل بتعلم القرآن وحده سيكون قاصراً في ملكة اللسان العربي، إذ لا تحدث لهم هذه الملكة به أو بغيره .

وقد طبق ابن خلدون بعد ذلك نظريته ميدانياً على المجتمعات العربية فوجد أن المجتمعات التي تقتصر في تعليم أولادها على القرآن الكريم لا يكتسب أولادها الملكة بشكل سليم ، بينما المجتمعات التي تخلط تعليم القرآن بتعليم الشعر وكلام العرب يستفيد أولادها الملكة أكثر من غيرهم .

ثم يطرح حلاً لهذه المشكلة وهو أن يتعلم النشء أولاً كلام العرب وبخاصة الشعر ويدرسون العربية والحساب، ثم يتعلمون القرآن بعد ذلك، لأن تعليمهم القرآن في حداثة سنهم يشق عليهم مع عدم فهمهم له . إن ابن خلدون يؤيد هذا الحل علمياً لكنه يعترف أن العادات الاجتماعية لا توافق عليه طلباً للتبرك وحرصاً على الثواب .

إن فكرة ابن خلدون هذه يدعمها واقع معاش ، وهو أننا نرى الكثير من المسلمين غير العرب يحفظ القرآن الكريم حفظاً قوياً ، بل وبعضهم يمسك القرآن يقرؤه ويرتله ، لكنه مع ذلك عاجز عن مخاطبة غيره بالعربية فضلاً عن إجادتها فصيحة.

ولا يعني ذلك أن ابن خلدون لا يرى فائدة حفظ القرآن ودراسته على الملكة اللغوية ، بل إنه يرى فائدة ذلك لمن تقدم به الزمن قليلاً ، وتمكن من الملكة ،فأمكنه بها فهم القرآن وتدبر معانيه ودرس تفسيره وأساليبه ، ليسهم في بناء تكوينه اللغوي .


 

و_ التدرج في التعليم :

قال ابن خلدون _رحمه الله تعالى_ : " اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً ، إذا كان على التدريج ، شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً ، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب . ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه ، حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم ، إلا أنها جزئية وضعيفة . وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ، ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه ، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته ، ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضّحه وفتح له مقفله ؛ فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته " .

إن حاجة المتعلم للغة تكمن في إعطائه الوعي لاستعمال اللغة في المجتمع ، لا بد أن ندرك أننا لا نعد علماء لغويين بداية أو معلمين للغة أو محللين ألسنين، كل ما نريده هو مستعمل للغة مشابه لأصحاب اللغة الخلّص ، لذا فيرى الباحثون أن تطبيق علم الألسنية في مجال التعليم دون الاستعانة بالعلوم التربوية وصب اللغة في قالبها يسيء إلى عملية التعليم ، وهنا تبرز حاجتنا إلى تعليم تربوي تواصلي تداولي اجتماعي للغة .

إن المادة العلمية اللغوية شاسعة النطاق ، فهل يُتصوّر أن يتم تعليم هذه اللغة بأكملها بكل مادتها للناشئ؟ تربوياً وبما أننا نريد الوصول بالمتعلم للكفاية اللغوية حيث تسنى له بناء قواعد لغته في ممارساته اللغوية، لا بد من عملية غربلة للمادة والقضايا اللغوية التي تقدم للمتعلم ، ويرتبط اختيار المسائل اللغوية بالهدف الموضوع لمادة اللغة وبمستوى التلاميذ وبالوقت المقرر للمادة .

بعد أن يتم اختيار المادة اللغوية لا بد من ترتيب تقديم هذه المادة ، ويؤيد أكثر الباحثين اعتماد التركيب الذي يراعي السهولة والانتقال من العام والخاص وتواتر المفردات، وهذا ما شرحه ابن خلدون في اقتراحه ذي التكرارات الثلاث : التكرار الأول خاص بأصول العلم مع مراعاة عقل المتعلم في اختيار مصطلحات هذا العلم واستعداده لقبوله ، ثم التكرار الثاني وهو خاص بالشرح وتوضيح الخلافات ، ثم التكرار الثالث وهو خاص بحل العويص والغامض مبيناً أنه لا تحصل الفائدة إلا بهذه التكرارات، مع دعوته إلى التقليل من المصطلحات في هذا العلم ، لأن في هذا التكرار ضرراً بالمتعلم والتلميذ لأنه قد يفني عمره ولا يفي بما كتب في علم واحد.


 

ز_ التمرين اللغوي :

قال رحمه الله : " فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل ، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته ، وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم ، فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان".

لقد وضح لنا ابن خلدون ثلاثة عناصر تفيد في تعلم اللسان العربي وهي : البحث في شواهد اللسان وتراكيبه، ثم أهمية المران والممارسة في عملية التعلم ، ثم ضرورة التمييز بين الوسيلة والغاية وقد أشرنا إلى الأولى والثالثة فيما سبق .

إن التعليم اللغوي في نظر ابن خلدون وفي نظر كثير من الألسنيين التربويين لا يجدي نفعاً بدون التطبيق العملي ، إذ يصبح التعليم اللغوي بدونه تنظيراً لا أثر له على المتعلم ، ونحن نريد من كما ذكرنا وعياً باستعمال اللغة الاستعمال الصحيح ، لذلك يخصص غالب وقت التعليم في تمرين التلميذ على استعمال اللغة وتقوية ملكته اللغوية وتنويع أساليب تعبيره ، لذا يخضع هذا التمرين إلى دراسات ومنهجية تخدم الهدف التعليمي لتحدد طريقة إعداده .


 


 

الخــــاتــمـــــــة


 


 

وبعد فإننا نلمس الفكر اللساني التربوي الخلدوني بارزاً في مباحث مقدمته ، حيث أدرك أن اللغة من مقومات العمران البشري ، وانبرى يتحدث عن تحصيلها وأحوالها . إن هذا الفكر لم يكن فكراً تنظيرياً عمومياً وحسب ، بل إنه عبارة عن منهج بحث ربط بين النظرية والتجريب ، وقد ذهب فيه الفكر على حد تعبيره : "من باب الأسباب على العموم ، إلى الإخبار على الخصوص" .أي من المجرد إلى الملموس ، لقد اعتمد مبدأ المطابقة _ مطابقة الوقائع معياراً لصحة الأخبار كما نص عليه بنفسه ، لذا أمكن أن نطابق بدورنا فكره اللساني التربوي على واقع احتياجاتنا اللسانية التربوية .

لقد زخرت اللسانيات التربوية بالدراسات والنظريات التي تدّعي السبق والجدة والاكتشاف ، بينما ابن خلدون في مقدمته يصدع بأن : "وكأن هذا علم مستقل بنفسه ... واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة،غريب النزعة ، غزير الفائدة ،أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص ،... وكأنه علم مستنبط النشأة ، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة ". وقد رأينا من قراءة المباحث أن ابن خلدون المتوفى في أوائل القرن التاسع الهجري قد سبق في فكره اللساني التربوي علماء القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين ، ولعل هذا يفيد في التالي :

  1. يعيد موازين النظرة إلى علم اللسانيات التربوية ،بإضافة الجهد العربي المسلم إليها .
  2. يعيد نظر كثير من الدارسين اللسانيين الظانين أن الأسبقية في هذا العلم للغرب .
  3. كما يعيد نظر التربويين العرب غير الواثقين بالرؤى الغربية للسانيات التربوية ويرون فيها عجزاً عن التطبيق على المناهج اللغوية العربية .

وجزيل الشكر أبعثه لأستاذي الفاضل د. محمد صاري ، ولأستاذي الأول في الحياة والدي د. إبراهيم الجوير جزاه ربي جنات النعيم ، إذ هيآ لي البحث في هذا الموضوع الذي أفدت منه عظيم الفائدة والله أسأل أن يوفق ويعين ويتقبل .


 


 


 


 

الباحثة : أسماء

الرياض

27 / 12 / 1429هـ


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 

المــــراجـــــــــــع


 

  1. الاتجاهات التجديدية في الدرس عند عبد القاهر الجرجاني وابن خلدون ، د. عبد الله الخثران (القاهرة ، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان ، ط الأولى ، 1987).
  2. التداولية عند العلماء العرب د. مسعود صحراوي ( بيروت، دار الطليعة ، ط الأولى ، 2005 ).
  3. الرد على النحاة ، ابن مضاء القرطبي (القاهرة ، دار المعارف ، ط3 ، 1988) .
  4. (العربيزي) محاضرة للدكتورة وسمية المنصور في مركز دراسات الطالبات بعليشة ، يوم الأثنين 24/12/1429هـ .
  5. الفكر اللساني التربوي في التراث العربي _ مقدمة ابن خلدون نموذجاً. بحث للدكتور محمد صاري .
  6. الملكة اللسانية في نظر ابن خلدون ، د. محمد عيد (القاهرة ،عالم الكتب ، ط1 ، 1979).
  7. الملكة اللسانية في مقدمة ابن خلدون ، د. ميشال زكريا (بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،ط الأولى ، 1986م ).
  8. كتاب في علمية الفكر الخلدوني تأليف مهدي عامل (بيروت ، دار الفارابي ، ط الرابعة ، 2006).
  9. قضايا ألسنية تطبيقية ، د. ميشال زكريا (بيروت ، دار العلم للملايين ، ط الأولى ، 1993م).
  10. لغة القرآن مكانتها والأخطار التي تهددها د. إبراهيم أبو عباة (الرياض ، الجمعية العلمية السعودية للغة العربية،ط الأولى ،1429هـ).
  11. مقدمة ابن خلدون بتحقيق أ. درويش الجويدي (بيروت ، المكتبة العصرية ، ط2، 2003).
  12. مباحث في النظرية الألسنية وتعليم اللغة ، د. ميشال زكريا (بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،ط الثانية ، 1985م ).


 


 


 


 


 

الــمـــحـــتــــويات


 

المــــــــــقـــــدمة

2 

مدخل :

إضاءة حول اللسانيات التربوية . 


 

4

مباحث البحث :

المبحث الأول:
الملكة اللسانية : أ_ تعريف الملكة اللسانية .


 

6

ب_ الملكة اللسانية غير صناعة العربية وغير قواعد اللغة.

7

ج _ أحوال الملكة اللسانية : فسادها ، امتزاجها بغيرها.

9

د_ الحدس اللغوي .

10

المبحث الثاني :

قضايا الاكتساب عند ابن خلدون :

أ_ نظرية اكتساب اللغة .

12

ب_ اكتساب اللغة من خلال الترعرع في البيئة .

12

ج_ اكتسابها بواسطة الحفظ والمران .

13

د _ النفس لا تتسع لأكثر من ملكة لسانية تامة واحدة .

15

هـ_ الملكة اللسانية وتعليم القرآن .

17

و_ التدرج في التعليم .

18

ز_ التمرين اللغوي .

19

الخاتمة :

20

المراجع . 

22

No comments:

Arabic at City -Short Courses Open Evening and Taster Sessions

  Short Courses Open Evening and Taster Sessions Thursday, 7 th  September 2023 , 18:00 – 19:30 ( BST ) Online. Free You’ll have the chance ...